لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ، حَيْثُ يُفْسِدُهَا العِث وَالصَّدَأُ، وَيَنْقُبُ عَنْهَا اللُّصُوصُ وَيَسْرِقُونَ
(متّى ٦:١٩)
Treasure Maps for haunting Landscapes-VII
الذي يوسوس في صدور الناس
قبل عشر سنوات، أعطتني أناهيد، عمة والدي، "كتاب ذاكرة"¹ عن قرية والدها في الإمبراطورية العثمانية. كان الكتاب سجلًا مفصلًا لتاريخ القرية، نباتاتها وحيواناتها، تقاليدها وقواعد لغتها المحلية. كما تضمّن توثيقًا لأسابيع من المقاومة ضد الجيش العثماني خلال الإبادة الجماعية للأرمن، وخرائط مرسومة يدويًا توضح موقع القرية من القرى المجاورة. آثرت البحث عن القرية متسلّحًا بهذا الكتاب. استشرتُ باحثين ومؤرخين وأصدقاء، وجمعت كتبًا وخرائط شعبية. وحددتُ الموقع الجغرافي العام للقرية. وعندما أبلغتُ عائلتي بنيتي السفر إلى تركيا، نصحوني بالحذر وألّا أكشف عن أصولي الأرمنية. فلطالما سمعنا عن أرمنٍ يزورون مدنَ وقرى أجدادهم في شرق تركيا فيُشتبه في أنهم جاؤوا للبحث عن الذهب، ويتعرضون للمضايقات والخطر. إحدى عمّاتي أوصتني ساخرةً: أَعِد ذهب جدك الأكبر معك
قادني بحثي عن الخرائط الشعبية الأرمنية إلى عالم موازٍ تمامًا، هو عالم صائدي "الكنوز الأرمنية"، حيث تشكل الخرائط المشفرة للأراضي الأرمنية الواقعة في الإمبراطورية العثمانية أساسًا لروايات وشائعات عن كنوزٍ يُعتقد أن الأرمن دفنوها إبّان الإبادة والتهجير. بالنسبة للأرمن، الخرائط أدوات للتوثيق والحفاظ على الذاكرة، أما في نظر بعض المواطنين الأتراك، فهي مفاتيح وسبل تؤدي إلى العثور على "الذهب الأرمني". البحث عن "الذهب الأرمني" مدفوع باعتقاد راسخ بأن الأرمن أخفوا ثرواتهم قبل أن يُقتلعوا من أرضهم. من هنا، لا يمكن فصل البحث عن الكنوز في تركيا عن تاريخ الاستيلاء على ممتلكات الأرمن الذي رافق الإبادة كظلّها اللازم². أسطورة الذهب الأرمني المدفون تحوّلت إلى هوس، تتشابك فيه الشائعات والخرائط المشفّرة ونظريات المؤامرة وتعويذات العصور الوسطى. أسطورةٌ لا تُغري الباحثين عن الكنوز والمؤرخين الزائفين فحسب، بل تتسلّل إلى الخطاب السياسي العام، كاشفة عن قلقٍ دفين في اللاوعي الجمعي التركي المسكون بأشباح الأرمن وثرواتهم
يستعين صائدو الكنوز بأجهزة كشف المعادن، وعِصي الاستنباء، وحتى بالعرافين والمنجّمين. يستعين صائدو الكنوز بأجهزة كشف المعادن، وعِصيّ الاستنباء، وحتى بالعرّافين والمنجّمين. وتشكّل الخرائط الشعبية التي يُشاع أنها نُسخت من سجلات أرمنية، محور الطواف حول الذهب الأرمني المفترض. تختزن هذه الخرائط إشارات ورموزًا وشيفرات يُستدَل منها على الكنوز: سمكة تشير إلى الشرق، سلحفاة محفورة في الحجر، مخلوق ثلاثي الرؤوس، صلبان متعددة الأشكال وكتابات غامضة. ترى الباحثة أليس فون بيبرشتاين أن هذه الخرائط ليست أدوات للعثور على الذهب فحسب، بل قنوات تفضي إلى تاريخ مدفون. البحث عن الذهب الأرمني في نظرها لا يقطع مع عنف الماضي، بل يعيد وصله بالحاضر³، ويكشـف عما تكتنزه الأرض من أسرارٍ تهدد السردية الرسمية التركية وتزعزع هويتها التأسيسية
في عام ٢٠٢٢، أعلن قادر جنبلاط، رئيس منظمة "المواقد العثمانية"، أن حل أزمة تركيا الاقتصادية يكمن في استخراج الذهب الأرمني المدفون، مدّعيًا أن ذلك سينمّي الاقتصاد التركي عشرة أضعاف. يكمن خلف هذه المزاعم الاقتصادية البهلوانية⁵، خيال سياسي يتغذّى على الإبادة كمصدر للثروة المؤجلة ويرى فيها مواردَ لم تُستنزف بعد. فبعد أكثر من قرن على إبادة أرمن الإمبراطورية العثمانية وتطهيرهم عرقيًا من دولة تركيا الحديثة، لا تزال ثروات الأرمن المفترضة تشكّل خشبة خلاص في زمن الأزمات وكأنها بئر لا ينضب أبدًا. تحت المنازل، خلف الجدران، في باحات الكنائس، وخاصة في المقابر، لا تزال ثروات الأرمن تأسر الأرواح. ولا يمكن عزل هذا الانجذاب عن واقع أن الدولة التركية نفسها نظّمت عملية استيلاء واسعة على ممتلكات الأرمن، وجعلتهم، سياسيًا واقتصاديًا، كأشباح لا ورثة لهم. هكذا لا يغدو التاريخ الاستغلالي الذي بُنيت عليه الهوية التركية، عبئًا وذنبًا، بل خميرة تُعجن فيها مشاريع استغلالية مستقبلية
في هذا السياق، تتحوّل كل إشارة على خريطة إلى وعدٍ بالثروة، وأثر لجريمة مستمرة في آن معًا. فما هو مدفون في الأرض عنف لم يُعترف به. لكن الأرض، غالبًا لا تنسى كما أنها لا تكشف أسرارها ولا تمنح ثرواتها دون ثمن. فالصخور تتحول إلى ثعابين والتربة تنزف والأجهزة تتعطّل، أمّا الذهب، حين يُمسّ، يستحيل هباء أو يتحوّل إلى خنافس. في إحدى الروايات التي وثقتها الباحثة أنوش تامار سوني، عثر منقبون على إناء من فخار. وعندما فتحوه، خرجت منه أسراب من النحل فهربوا خوفًا. لكن الرواية تقول: لو صبروا وتحمّلوا اللدغات، لتحوّل النحل إلى ذهب من جديد⁶. هكذا تتداخل الأشباح والشائعات والعجائب، لتصيب من يقترب من الكنوز باللعنة والذهول، ما يفضي إلى شواهد على ما تسعى الدولة التركية إلى طمسه⁷. هذا الوسواس المتربّص في صدور صائدي الكنوز يكشف عن قلقٍ عميق: قلق مما دُفن في التربة، وفي الذاكرة، وفي الضمير. فمن يسعى إلى وراثة ثروات الغائبين، وتحويل الإبادة إلى رأسمال، يُقابَل بتعاويذ مؤرقة، وشائعات لا تنتهي، وهوس يلامس الجنون
¹
كتاب الذكرى أو سجل الذاكرة، أو كتاب الذكرى، او الكتاب المزار، هي منشورات توثيقية كتبها الناجون من الإبادة الجماعية للأرمن للحفاظ على ذكرى مدنهم وقراهم المفقودة في الإمبراطورية العثمانية. تُعرف في الأرمنية باسم هوشاماديان وهي كلمة مركبة، تتكون من ”هوش“ أي ذاكرة و”ماديان“ أي كتاب او سجل او مخطوطة
²
تكتب أليس فون بيبرشتاين: كما توصل عدد من المؤرخين على مدار العقدين الماضيين ...، فإن قتل السكان الأرمن العثمانيين ترافق مع مشروع ضخم للاستيلاء على الممتلكات وتخصيصها بهدف تسهيل وترسيخ تشكيل اقتصاد وطني في أيدي البرجوازية المسلمة الناشئة. كان الاستيلاء على ممتلكات الأرمن شاملاً تمامًا، كما أوضح هذا المقال من خلال مثال مباني الكنائس المملوكة ملكية خاصة. استهدف البرنامج الممتلكات المنقولة وغير المنقولة على حد سواء؛ وشمل الأراضي والحسابات المصرفية والمنازل والماشية والمجوهرات
Alice von Bieberstein, "Holes of Plenty," Etnofoor 33, no. 2 (2021), 74-90:86
³
Alice von Bieberstein, "Treasure/Fetish/Gift: Hunting for 'Armenian Gold' in Post- Genocide Turkish Kurdistan,"
Subjectivity 10, no. 2 (2017)
⁴
المواقد العثمانية هي مجموعة اجتماعية سياسية تركية ذات توجهات قومية متطرفة، تمزج بين الفكر الطوراني، الذي يربط الأتراك بجذورهم في آسيا الوسطى، والهوية التركية-الإسلامية، وتتبنى رؤى العثمانية الجديدة. ويأتي هذا التوجه في إطار من الحنين الإمبراطوري إلى ماضي الدولة العثمانية، مع السعي إلى إحياء رموزها الثقافية والدينية في الحياة السياسية المعاصرة. وتُعد الحركة من أشدّ الداعمين للرئيس رجب طيب أردوغان، وتلعب دورًا تعبويًا مؤثرًا، خصوصًا في أوساط الشباب المنتمين إلى التيارات القومية الإسلامية
⁵
بلغ الناتج المحلي الإجمالي لتركيا في عام 2022 نحو 900 مليار دولار أمريكي. وتعني زيادة بمقدارعشرة أضعاف وصول الناتج إلى 9 تريليونات دولار. وبحسب أسعار الذهب الحالية، فإن هذا يعادل حوالي 150,000 طن من الذهب، وهو ما يفوق إجمالي كمية الذهب التي تم استخراجها في تاريخ البشرية
⁶
Anoush Tamar Suni, "Historical Alchemy: Buried Gold, Buried Pasts,"
Anthropological Quarterly 96, no. 2 (2023): 335-360
⁷
Zerrin Özlem Biner, "Acts of Defacement, Memory of Loss: Ghostly Encounters and Derelict Houses in the Kurdish Landscape,"
POLAR: Political and Legal Anthropology Review 42, no. 1 (2019):68-94